في بيتنا رجل
تحكي الرواية قصة مناضل مصري أبراهيم حمدي قتل قريبه أثناء مظاهرة علي أيدي البوليس في الفترة ما قبل الثورة فيقرر الأنتفام بقتل ئيس الوزراء الخائن الموالي للأنجليز ولكنه يتم القبض عليه بعد قتل الوزير ويتم تعذيبه حتي يدخل أحد المستشفيات ولكنه يستغل فترة الأفطار في شهر رمضان ليقوم بالهرب لمنزل زميله الجامعي محيي زاهر الذي ليس له نشاط سياسي فيعيش في منزلهم فترة مع أبيه زاهر وتقع نوال أخت محيي في حبه ولكنه يقرر السفر خارج مصر للهروب ولكنه بعدما علم القبض علي محيي وأبن عمه عبد الحميد فيقرر تدمير معسكر للأنجليز بالعباسية ولكنه يقتل أثناء تفجير المعسكر ثم يخرج محيي وعبد الحميد من السجن بعد أن يقرران مع نوال الأنضمام للجماعة التي تقاوم الأنجليز مع زملاء أبراهيم حمدي
تعليق
العنوان يخلق الفضول عند القارئ ويسبب عصفا ذهنيا يثير تصوّرا ما .. انطباعا تصوّريا قبل البدء في القراءة. نحن أمام رواية منذ وقوع نظر ما ومنذ وقوع نظرنا عليه يخلف لدينا انطباعا وتصوّرا.
نلاحظ أن إحسان عبد القدوس قد اختار موضوعا اجتماعيا ولكن الهيمنة السياسية لم تمنع إطلاقا وجود حيّز للرومانسية " إبراهيم ونوال " .. ويبقى الإطار والمفهوم العام لها الوطنية والسياسة ..
ذكر بعض العادات والتقاليد وتصوير بعض العادات الاجتماعية الموجودة في هذا الزمان. فالرواية كتبت في الستينات من القرن الماضي .. والأحداث في الأربعينات من القرن الماضي قبل ثورة يوليو 1952 " زمن الكتابة وزمن الأحداث " .
المدة الزمنية التي استغرقها الحدث التمثيلي فترة لم تكن أطول من شهر بكثير .. والأحداث الروائية بدأت وانتهت بإبراهيم ولكن الكاتب حاول أن يمدد الأحداث ليحلل ويسلط الأضواء على تطور بعض الشخصيات فقد أراد أن يظهر التغيير الذي طرأ على الشخصيات بعد موت إبراهيم.
المكان : مصر وتحديدا في مدينة القاهرة التي جاء ذكر بعض الأماكن المحددة فيها. والمكان الثاني كان مدينة الاسكندرية .. ولكن الأحداث بدأت وانتهت في القاهرة.
في بيتنا رجل ليست بمثابة تقديم واقع سياسي لفترة من التاريخ مصر قبل ثورة الأحرار بل يقدم أيضا واقعا اجتماعيا من خلال صورة اجتماعية لعائلة بسيطة بادق تفاصيل حياتها ويتعرض لقيم وعادات وعلاقات الأفراد ببعضهم البعض انه يعرض رصدا وتاريخا مرئيا لزمن مضى وانقضى مفعم بأحاسيس والقيم والتقاليد .
ربما تبدو هذه الرواية لبعض القراء مجرد حكاية أو قصة شاب مغمور بحب الوطن أراد أن يقدم عمل فدائيا لوطنه المحتل في حدود وعيه ونضجه السياسي فاقدم على اغتيال عميل من عملاء الاستعمار رغم رفضه الداخلي للاغتيال والتقتيل ولكن الرواية تقدم ما هو ابعد واعمق من ذلك انها تجسد نظرة فكرية لمفاهيم انتماء والتضحية والوفاء وهي مفاهيم لا تتغير في الزمان والمكان بل طرق وأساليب الإفصاح عنها هي التي تتغير .
أراد المؤلف أن يوضح لنا أن وطنية الأب واضحة وثابتة ووطنية محيي عاتمة مظلمة استعمل الإضاءة والتلاعب بالنور والظل ففي المشهد يبدو محي معتما جالسا في مكان مظلم داخل حجرته ثم يدخل إليه الأب فنلاحظ سقوط الإضاءة على الأب فيتقدم إلى محي فيجلس معه وتطل الإضاءة الأب مضيئة ومحي عاتمة رغم جلوسهما في مكان واحد.
وقي المشهد الذي كان فيه البوليس السياسي يستنطق في إبراهيم حمدي كانت الإضاءة خافتة نوعا ما تعبير عن توتر الجو والغموض
واثناء الحوار نشاهد محيي يصغي إلى أبيه بكل اهتمام في المشهد الأخير من باب دلالة على اختلاف وجهة نظرهما عندما يخرج إبراهيم مغادر البيت نرى محي يخرج وراء إبراهيم دليل على تغير في موقفه و إماتة بالقضية .
إن قراءة هذه الرواية في الزمن الحاضر يطرح في الأذهان والعقول تساؤلات ذات أهمية قصوى خاصة أن في هذه الأيام اختلفت فيه الأوضاع واختلطت فيه الأوراق وشوهت فيه الكثير من القيم والمبادئ.
حتى أصبحنا لا نستطيع التفريق بين الانتماء والتخريب و بين الفدائي والإرهابي، إن مقاومة الخيانة والعمالة والفساد انتماء، والتخريب والقتل إرهاب.
وهناك فرق كبير بين ما قام به إبراهيم وما يقوم به هؤلاء أو اولائك مرة باسم الدين و أخرى باسم الوطنية و ثالثة باسم التاريخ أو الإديولوجية، ان هذا الفرق يشبه الفرق بين الليل والنهار وبين الأسود والأبيض و هو مثل الفرق بين الفدائي والإرهابي بل انه الفرق بين الصواب والخطأ .
الشخصيات
الثانوية والغائبة: بعض الشخصيات قد تحدث لبسا في العقل.
ونحن نصنف الشخصيات إلى ثانوية أساسية وثانوية هامشية بمقدار ظهورها في الرواية والتأثير على الأحداث وعلى الشخصية المحورية :
الأب – أساسية ، نوال – أساسية ، سامية – ثانوية أساسية ، محيي – أساسية ، عبد الحميد ثانوية أساسية الأم – ثانوية هامشية .
أصدقاء إبراهيم: فتحي المليجي – ثانوية أساسية ، باقي الأصدقاء – هامشية ،
أمن الدولة : همام – هامشية ، الدباغ – أساسية.
الشخصيات النمطية : هي تلك الشخصيات المعروفة المعتادة في الذهنية الروائية والذهنية العربية .. ستلاحظ أن هناك شخصيات نمطية وثابتة وغير متطورة – إبراهيم شخصية ثائرة يؤمن بما يفعل ويقول ومن صفاته المحاججة وإقناع الآخرين وكذلك الجرأة. شخصية البطل ثابتة في الذهنية الروائية . ليس شرطا أن يحقق انتصارات .. عبد القدوس كان رائعا جدا لأنه تمرد على مفهوم نهاية الرواية ونهاية البطل.. فلقد مات إبراهيم وكانت النهاية واقعية جدا..
نوال شخصية نمطية ، الفتاة العربية الساذجة التي تحب وهي مغلقة العينين ولا تفكر بالنتائج. نوال تعلم أن إبراهيم وحبه محكوم عليهما بالإعدام والفشل .. كيف يمكن لقاتل أن ينجو بفعلته ونحن ما زلنا تحت سيطرة الاستعمار؟!
الشرطة / الحكومة نمطية ، ونمطيتها جاءت من ممارسات عشرات السنين .. وطبيعة رجال التحقيق الذين يواجهون دائما نفس الموقف تجعلهم نمطيين..
الشخصيات المساعدة للأبطال نمطية ..
تحليل
أول ما يلفت النظر عند تناول المتصدي لتحليل النص الأدبي تصنيف الشخصيات والصراع والزمان والمكان والارتجاع الزمني.
إبراهيم شخصية محورية .. كل الشخصيات تدور حولها .. نفهمها بمقدار قربها أو بعدها عن الشخصية المحورية .. وأيضا بمقدار تأثيرها على الشخصية المحورية.
ما الفرق بين الأساسية والثانوية الأساسية من الشخصيات ؟ الأساسية من تزامنت مع الشخصية المحورية الأحداث منذ البداية . بينما لازمت الثانوية الأساسية بعض الأحداث ..
اليوزباشي الدباغ شخصية نمطية .. معروفة تصرفاتها في العقلية العربية والرواية العربية . ومن المواقف النمطية موقف الشرطي .
نوال شخصية نمطية .. فتاة تحب وتندفع إلى حبيبها دون التفكير بالعواقب " تستعمل القلب لا العقل ".
شخصية همام "تجميلية" .. أصدقاء إبراهيم ثانوية تجميلية .. فتحي المليجي ثانوية أساسية من الطبقة البرجوازية لم يراقب لأنه غني " الأغنياء لا يشاركون في الانقلاب ، والثورات مقتصرة فقط على الطبقة الفقيرة".
لم تعط الرواية أية أهمية لوالدي إبراهيم وعبد الحميد ...
رب الأسرة وابنه محي مرورا بعبد الحميد شخصيات غير ثابتة بل متطورة .. فالاهتزازات السياسية والمشاكل الاجتماعية أدت إلى تطوير وتغيير الملامح السياسية لتلك الشخصيات..
الشخصية الثانوية مفتاح لأبواب مغلقة .. فبدون شخصية عبد الحميد ما كان للبناء الفني للرواية أن يستقيم وأن ينمو.. قبل أ، يدخلنا إحسان عبد القدوس في الملل أدخل عبد الحميد عملية تصاعدية بالحدث .. إنسان براجماتي يفكر بالمصلحة قبل أي شيء .. يعمل عملية تمويه للشرطة، لكنها لم تنطل عليها.. فكان لا بد لهم من أن يظهروا له أنهم صدّقوه حتى يريحوه ويبدأ بالتصرف طبيعيا فيراقبونه مرة أخرى. أما هو فلم يكن ذكيا إذ لم يتصرف على طبيعته عندما راقبته الشرطة.
الغاية تبرر الوسيلة كما جاء في كتاب الأمير لميكافيلي كانت الأيديولوجية التي يسير عليها عبد الحميد.ز كان يبحث عن الأعمال التي تحقق له الثراء والمكانة الاجتماعية بأقصر الطرق.. شاب متهور لا يفكر بالعواقب ، متسرع في أفعاله .. مع تطور الأحداث شخصية نامية بدأت تظهر تغييرات على عبد الحميد .. كردة فعل.
حبه لسامية لم يكن حب منفعة ولهذا تراجع وران عليه الصمت .. تغيرت شخصيته فلم يعد مرحا وحدثت تفاعلات نفسية في داخله (منطقة اللاوزن عند عبد الحميد) فقد كان في حاجة لدخول مرحلة اللاوزن التي لم تستمر طويلا بفعل الضغوطات الخارجية التي أدت إلى عملية التحول – الاضطراب ، الخوف ، التحقيق ، السجن....
مر عبد الحميد في فترة الحيرة "عدم معرفة نفسه" منذ أن بدأ الهروب من الشرطة إلى أن قبض عليه..
لم نعرفه وهو يتحدى الضرب لدرجة أنه تأخر في السجن ..
صقلت شخصيته فبدا مختلفا تماما..تغير وبدا الإيمان يتغلغل في قلبه .. أصبح مؤمنا بالقواعد الاجتماعية والدين والتعليم .. وتقبله المجتمع من جديد..
الإنسان غير المؤمن إنسان ضائع..
تأثير الزمان والمكان على الشخصيات
المكان: الاسكندرية / السفينة ..البيت / الشارع / السجن / المعسكر .
الزمان: الماضي والارتجاع االزمني / زمن الكتابة / زمن الأحداث / مدة الأحداث.
المكان :
المكان دائما تأثيره خطير .. الشخصية مصنوعة من المكان ..
محيي أصم أذنيه عما يدور حوله، شخصية استثنائية عن بقية الجميع ..محصور في بيئة "البيت".
تأثير السجن : الداخل إلى السجن واحد من إثنين : إما أن يخرج جبانا .. أو يخرج شخصا آخر أقوى وأعنف .. كان للسجن تأثير واضح على شخصيتي محيي وعبد الحميد من حيث القوة والتحمل والتفاعل مع الأحداث الوطنية والعلم.
بيت زاهر : مستقر ، هادئ ، وادع .. هذا ما كان الحال عليه إلى أن دخله إبراهيم .. أصبح سجنا وساده الحيطة والاحتراس .. وأثر هذا التحول على كل أفراد العائلة ..
الاسكندرية مكان السفينة .. رحلة طويلة وضغوط ليست سهلة لشخص مثل إبراهيم .. هو الذي كان يطارد الانجليز، فليس سهلا عليه أن يختبئ .. اتخذ قرار البقاء في مصر لتنفيذ عملية كبيرة.
المعسكر : ما ل يقله لنا إحسان عبد القدوس : إن إبراهيم أراد الموت والانتحار .. أراد أن يبدأ الثورة .. أراد أن يخرج محيي وعبد الحميد من السجن .... في قرارة نفسه أراد أن الموت.
الزمان :
شهر رمضان وبسببه استطاع إبراهيم أن يرتب عمليه هروبه من المستشفى التي وضع بها تحت الحراسة، ولذلك استطاع أن يغادر المستشفى دون أدنى شك لأن الجميع منشغل بالأفطار.
ملخص
1
ابراهيم من ذلك النوع من الرجال الذين يكتمون أحاسيسهم ويتجنبون الظهور ، يحب العمل الصامت. اعترف به زعيما في وقت مبكر ، صمته ساعد على رسم صورة مبهرة له ومهد للكثير من الاشاعات التي تمجده.
وطني بالفطرة ، لم يكن سياسيا، يكره الانجليز والملك والزعماء والوزراء و يحس بمطالب الشعب بالغاء معاهدة 1936 ورفع الأحكام العرفية. تأتيه الزعامة ولا يطلبها ، لا يستطيع أحد أن يكرهه، بعيد عن النساء واللهو ، لا دور للنساء في حياته، ليس له أخوات ، أما أمه فيراها كاملة ولا يظن أنها كانت بنتا ذات يوم .
يحب أصدقاءه ويحب وطنه ومسدسه . علاقته بالمسدس بدأت في السابعة عشرة ثم تطورت ورافق ذلك الشعور المتنامي بالقوة والمسؤولية . يشترك في مقاومة الجنود الانجليز اثر اعتدائهم على الباعة يعود الى ويتناول مسدسه الصغير - عزيزة – ويدسه في جيبه .
يقتل أول جندي انجليزي دون تردد بمساعدة أحد أصدقائه. تطور العمل والسلاح . صار صاحب الكلمة الأولى دون أن يكون زعيما. يعدل عن قتل الانجليز لأن التعتيم على الأخبار يحجب ذلك عن الناس ولا يحفزهم على الثورة . قرر التوجه الى الخونة الذين يطبقون سياساتهم الأمر الذي يفرح الناس ويحفزهم ويضعف الانجليز.
قتل أول خائن ،عبد الرحيم شكري باشا ، لم ينجح في الهرب ، اعتقل وأودع السجن. واعتبر بطلا . تمارض في السجن ، أدخل المستشفى تحت الحراسة ولكنه هرب منها بعد أن أسس لعلاقة طيبة مع الحرس وعود الجميع على غيابه للتنزه اليومي. يهرب ساعة الافطار ويلتجئ الى محي الطالب الوطني الذي لا يستطيع أن يكون بطلا ولكنه لا يرفض المساهمة في البطولة . ولا يثير الشبهات .
2
يصل بيت محي ، تفتح أخته الباب، لم ير فيها الا بنتا ويستغرب لماذا يخلف الناس البنات . قدومه مفاجأة للجميع .
يقبل الوالد الاستضافة وهو متشكك بعد حوار مشحون بينه وبين ابراهيم وانتظار مشدود لكل العائلة. يتعرف على بقية أفراد العائلة . قرروا ابعاد الناس عن البيت بكل الطرق ، وبدأ الوالد بترك البيت بعد الافطار حتى يكون لهم العذر في عدم الاستقبال. وقرروا الاستتغناء عن الخادمة قبل أن تراه.
تدخل نوال غرفة محي حاملة جلبابا لابراهيم . أول مرة تدخل بنت غرفته . لا يستطيع أن يرفع عينيه عنها .
يذيع الراديو بيانا عن الهرب وعن المكافأة وعن العقوبات على التستر عليه . زاد شعوره بالثقل على العائلة وآلمه خذلان المجتمع له .
3
يصحو من النوم . محي ليس في البيت . تنتابه الهواجس . يقرع الباب ويسمع صوت نوال . تسأل اذا كان يريد أن يذهب الى الحمام . يرى سامية في ملابس النوم فيشعر أنه وراء قضبان من البنات وقضبان من الحياء. ويشعر بكثير من الراحة بوجود نوال. يبادلها الحديث اثناء انتظاره لمحي . يعود محي مرتب كا مستنفرا ويخاطب ابراهيم بكلفة واقتضاب .
يفاجئه ابراهيم بالسؤال عن فهمي ويعلم منه أنه لا يحبه لفتوته وكثرة كلامه واتهام الطلبة له بالتجسس للحكومة . وعلى عادته تدرج ابراهيم في السؤال عن فهمي ، بعد أن أعرب عن ثقته المطلقة فيه ، حتى عرض محي أن يتصل به نيابة عنه.
اطمأن الى مزاج الأب اذ عاد الى طبيعته اليومية ، وتذكر بحزن الضابط الذي فر منه فحاول أن يكتب له معتذرا . بدأ الرسالة بالاسم ثم توقف عن الكتابة ووضع القلم والورقة جانبا دون أن يكمل .. ولم يمزق الورقة .
4
يحس في هذا البيت بحاجته الى الحرية أكثر مما كا في السجن. أحس بقيمة الحياة لأن هذا البيت مثل له الطيبة والعفوية واهدوء والسلام . ترتب نوال مكتب ابراهيم وتدس الورقة التي تركها ابراهيم بينها دون أن تطلع عليها.
يرى الوالد والد ابراهيم مهموما .. يفضل ابراهيم عدم اخباره ، فقد تعود على الهم كما يقول . أبو محي وطني أيضا ولكن بطريقته الخاصة (السلبية ) ، تفاعل مع الثورات السابقة في شبابه ويستغرب عدم وجود القائد الذي يلتف حوله شباب هذه الأيام . تلطف الوالدة الجو عندما تذكر الخادمة وافتقادها لها . ثم تؤلم ابراهيم دون أن تدري عندما تستذكر لوعة أمه عليه .
يقرع الجرس ، يختبئ ابراهيم في السندرة قبل أن يفتح الباب لعبد الحميد . انتهت الزيارة ونزل ابراهيم من السندرة .. وفتح الباب فجأة ودخل عبد الحميد وأخذ مجلته التي كان نسيها ، وغادر مبتسما ابتسامة خبيثة بعد ان رأى الغريب .
5
هول المفاجأة كان كبيرا . خيم صمت كبير وكأنه طلب صريح بمغادرة البيت.. لن يبلغ عنه مادام في البيت حرصا على بيت عمه ، لا سيما وأنه يريد الزواج من سامية . أما محي فيرى أن عبد الحميد فالت الزمام، فاشل، لا يؤمن جانبه .
يقرر ابراهيم أن يغادر البيت دون أن يشعر عبد الحميد بذلك . ولكن محي يستمهله ، وهنا وصل ابراهيم لغرضه بطلب من محي . القلق والصمت يلفان البيت والأب يفوض امره الى الله . لا يطلب من ابراهيم البقاء أو المغادرة .
الأم تبكي على صدر زوجها، حوار عنيف بين الأختين – سامية ترى الشر في عيني ابراهيم ولا ترى في علاقة نوال به مستقبلا، أما نوال فترى فيه كل الرقة والوطنية .. يتحول بكاء نوال الى نشيج . تحتضنها سامية وتربت عليها .
لم ينم أحد تلك الليلة . جاء الصباح . ذهب الوالد الى عمله دون أن يرى ابراهيم . محي يذهب الى الجامعة حاملا رسالة الى فهمي.. السجن أهون على ابراهيم من الهرب . تتحاور نوال مع ابراهيم دون كلفة .. يعود محي ليقول ان فهمي قد اعتقل . وبدأا يفكران من جديد..
6
يزور عبد الحميد الأب في العمل ويقرن وطنيته بالموافقة على زواجه من سامية . يتفق الوالد مع الأم على الموافقة صوريا مع وقف التنفيذ. أعلم العائلة بالأمر وطلب من سامية مسايرته حتى ينقضي الأمر . طلب الوالد من محي أن لا يخبر ابراهيم عن الزواج ويكفي أن يخبره أن محي قادم الليلة وأنه سيقابله.
اقتنع محي بعد معارضة أن يتصل بفتحي المليجي.. ويقنعه أن يكون ذلك عن طريق نوال خوفا من المراقبة . الرسالة هي بدلة ضابط وسيارة خلال يومين .وهكذا تولى ابراهيم القيادة داخل البيت وجند محي ونوال .
7
نوال تعد نفسها وكأنها ذاهبة للبحث عن طبيب لابراهيم . تذهب بكل حذر وتوجس كما نبهها محي. تقابل أخت فتحي في بيتهم الذي ينم عن ثراء وجاه . تلح عليها أن تصحيه من النوم وتنتحل اسم زينب حمدي – وكأنها تشي بأحلامها وآمالها.
حدد فتحي الموعد للبدلة والسيارة . خرجت سعيدة تشيعها نظرات غير مريحة من الأخت . ذلك الفتى النحيل الثري ليس الصورة النمطية لشباب المقاومة. تعود وتخبر ابراهيم . لم يعد ابراهيم ينكر حبه وأحاسيه تجاه نوال.
احتج محي على انتظار نوال في الميدان لتسلم البدلة .. يشك محي أن فتحي ربما يعاكسها. ولكنه لا يرافقها كما أقنعه ابراهيم .
سامية ذابلة مصفرة والدموع في عينيها تندب حظها وحظ أختها ..واحد فاشل والآخر محكوم عليه بالاعدام . كانت مهيئة منذ الصغر للزواج منه .العائلة تراه فاشلا وهي لا تزال على حبه الذي تخفيه . بعد فشله في التوجيهي انضمت الى نظرة العائلة اليه . ورغم أن زياراته كانت تضايق الجميع الا أنها كانت ترضي غرورها . كانت في حيرة من حبها .
8
افطار صامت .يحاول كل واحد أن ينهي على عجل. يوافق محي على ذهاب نوال لمقابلة فتحي . ويطمنه ابراهيم . أخذت نوال تستحوذ على فكر ابراهيم . كما هو متوقع يأتي عبد الحميد . يطلب ابراهيم من محي أن يوهمه أنه سيبقى عندهم اسبوعبن الى أن تخف حدة المراقبة . نوال تقنع سامية بمقابلته. كان القاء فاترا. يفاتح عمه بخصوص الخطبة. يجيبه العم بما يفهم منه عبد الحميد الموافقة ولكن على ألا يذكر ذلك الابعد مغادرة ابراهيم البيت.
لقاء ابراهيم وعبد الحميد الذي يبدي اهتماما واعجابا وعرضا بالمساعدة ، يريد أن يظهر وطنيته بأي شكل. ينهره عمه . لم تعجب ابراهيم الطريقة التي عومل بها فقرر التقرب اليه . وطلب من محي ان يحسن معاملته قليلا. سامية لا تزال تتمنع وتعيره بمستواه. وتختمر في ذهنه تسليم ابراهيم بعد اسبوعين والاستئثار بالمكافأة التي لا يستحقها عمه الغبي.
9
تخرج نوال للقاء فتحي بمساعدة سامية ودون علم الأم .. أول مرة تخرج دون اذن لا لتنقذ بطلا ولكن لتنقذ ابراهيم. لم تلحظ أن محي كان يراقبها في الطرف الآخر من الميدان. سلمها فتحي اللفافة بعد خمس دقائق من الانتظار وقال لها ان السيارة ستكون جاهزة في الغد . صدمتها فكرة مغادرة ابراهيم في الغد وانقبض قلبها.
عادت دون أن تلحظ أمها غيابها. سلمته اللفافة. لم تستطع أن تعرف أين سيكون في الغد ..فعادت الى حزنها .
10
شعر محي أنه ظلم الشباب المشتغلين في السياسة بعدما شاهد تصرف فتحي . وعاد من المراقبة خجلا من نفسه . يعرض محي تمديد الأقامة اذا لزم الأمر ولكن ابراهيم أبلغه شاكرا ممتنا عزمه على المغادرة في الغد. وطلب منه ومن نوال أن لا يعلما أحدا بذلك.
يحضر عبد الحميد , يبش ابراهيم في وجهه ، تعمد عبد الحميد أن يظهر رزينا وقورا ولكن لم يلبث أن عاد الى طبيعته. كلما سكت يدفعه ابراهيم الى الكلام الى أن فاجأه بسؤاله ان كان يعرف أحدا من الشرطه ليسأله عن اثنين من زملائه، ولا داعي للعجلة ، واعطاه أي اسمين. يتلهف عبد الحميد و يحث ابراهيم على الثقة فيه. طمن محي الى أن الاسمين خياليين ليبعده عن البيت. يستغرب محي أن الأبطال يكذبون ويشعر ببعض الألم لأن ابراهيم ضحك على ابن عمه.
بحث عن ساميه. كانت ستتألم كثيرا لو غادر دون أن يبحث عنها. تعامله باستخفاف ولكنها تحبه من قلبها. يمنيها بأطيب حياة ولا تعجبه طريقة موافقة أبيها. لما سألته عن الفلوس أشار الى المكافأة. طمنها أنه لن يبلغ عنه الا بعد رحيله ولم يعلمها بما طلبه ابراهيم منه. محتارة بين حبها وحساباتها.
نوال- فكرها كله منصب على ابراهيم. فراقه نهايتها والبدلة كفن له ولحبهما. هو يسترجع الذكريات والوجوه ولا يستطيع الا أن يتوقف عند نوال. فرحته بالمغادرة ناقصة . حياته أضيق من أن تتسع لنوال. قلبه وخياله يتسعان.
في الغد.. يطلب منها أن تصلح جيب جاكيت البدلة. تأخذها وتجهش في البكاء. يقول لها انه ليس له في الدنيا سواها. تقوت: لو كان الأمر كذلك لقلت لي الى أين أنت ذاهب، كيف اتطمن عليك، هل أنت خائف مني؟ قال: أنا خايف عليك من حياتي..كلها خطر. كفاية ما تحملتموه . وهي تلتقط الجاكيت تلامست يداهما لأول مرة. . وتباعدت سريعا.. ضرب لها موعدا يلاقيها فيه أو يترك لها خبرا..
11
تحتضن بدلته في غاية السعادة ولكنها تخشى على هذه السعادة من الزوال. تعيد البدلة بعد اصلاحها وتبادله نظرات تختزل كل معاني الحب. تستكتبه نصف الشهادة وتكملها وتأخذ ما كتب وتعطيه ما كتبت .. وضعت ورقتها في علبة المصحف الضغير الملازم لعنقها. وتمنى ابراهيم لو كان أحد الملايين العاديين حتى ينعم بعيشة مستقرة مع نوال.
أبقى ابراهيم موضوع المغادرة سرا بينه وبين محي أطول مايمكن حتى لايتسرب الى عبد الحميد.
يعود الوالد منهكا من العمل ووبعد قليل يحضر عبد الحميد. ويقول ان صديقه الضابط وعده خيرا بشأن زميلي ابراهيم الخياليين. يغازل سمية التي تصدعه بعنف ثم يغادر قبل أن يصحو الوالد من قيلولته.
تدب الحياة في البيت عندما يستقظ الوالد، يخبره محي بعزم ابراهيم على المغدرة ويؤكد له أن أحدا لا يعلم بوجوده عندهم. يطمئن الوالد ويمتلئ قلبه اعتزازا وفخرا بما قدمه للبطل. يعطي محي خمس جنيهات ليقدمها الى ابراهيم. يخبر أمه بأمر المغادرة ، تبتهج ولكنها لا تلبث أن تتساءل لماذا العجلة ، وهل أزعله أحد ، والنبي صعبان علي؟ ناولت محي مصحفا صغيرا ليعطيه اياه ودعت له كثيرا.
أعطاه محي الفلوس والمصحف وتقبلهما بكل امتنان. وهيأ نفسه للخروج مع المدفع بعد أن أخذ مسدسه من الدرج. حانت لحظة الوداع الذي كان صامتا مؤثرا تخللته بعض كلمات من الوالد. ضرب المدفع، دخل الوالد للصلاة، لن يتناول الفطور معهم، يقبل يد الوالة، يحتضن محي، يصافح سامية وتعانق يده يد نوال. يقبل الوالد الذي انتهى من صلاته ويخرج مشيعا بأعذب الكلام وأطيب الدعوات.
12
راحة وهدوء يسودان المنزل. يشعر الوالد بالزهو لممارسته الايجابية للوطنية لأول مرة. الأم لم تفكر الا في بيته وما اعتادت عليه .. وعودة الخادمة سنية. لم ينم الوالد وهو يتساءل فيما اذا كان محي قد انخرط في سلك المقاومة من ورائه. محي ايضا لم يعرف النوم. يثلج صدره شعوره بالمساهمة بالبطولة ويرى نفسه محمولا على أكتاف الجماهير المعجبة ثم ينتبه لنفسه وينكمش. تسرح نوال في خيالاتها وحياتها المقبلة مع ابراهيم الى أن تخرجها سامية من تلك الخيالات بسؤالها عن موقف عبد الحميد عندما يسمع بالخبر ، وهل سيطرده أبوها اذا عاد؟ لا تظن نوال ذلك كما لا تشك في حب سامية له.
ينتهي السحور، وقبل النوم يأخذ الأب من محي وعدا بانه لن يتعامل مع السياسة وتبعاتها.
13
في الصباح يطلب الوالد الجريدة على غير عادته. لا خبر يتعلق بابراهيم. نوال تحتضن قميصه تضعه بين ثيابها. يأتي عبد الحميد ويجن جنونه عندما يعلم بمغادرة ابراهيم. ويهدد بأنه سودي الجميع بداهية. لم يأبه لنداء سامية التي لحقت به الى الشارع وهي في غاية الذعر. انها تريد أن تجنب العائلة وتجنبه مغبة ما ينوي فعله، وتنقذ حبها الخفي له. تراه في كشك التلفون ، ينهي مكالمته قبل أن تستطيع الوصول اليه ، وتطارده بالتكسي ولكنه يدخل المحافظة قبل أن تترجل.
في لهفتها لم تجد كيس نقودها فعرضت على السائق أن يحتفظ بالشنطة لحين عودتها وارجاعها الى البيت. عطف عليها، لم يأخذ الشنطة ووعد بالانتظار. تاهت في مبنى المحافظة قبل أن تهتدي اليه في مكتب رئيس القلم السياسي الذي طلب حضوره بعد أن أبلغ أن لديه معلومات عن ابراهيم.
يهدأ غضب عبد الحميد وهو في غرفة الانتظار..ليس لديه معلومات عن ابراهيم ولا يريد أن يضر بيت عمه. فكر في الهرب ولكن رأيه استقر على تلفيق أي كلام غير الحقيقة.
تدخل سامية، يندهش عبد الحميد، ويسألها: ما الذي أتى بك؟ يدعوها همام بك للجلوس معهما . يفكر عبد الحميد في جنونها .. وقلة حيائها. ويشعر بالاهانة وبالذنب لأنه هو السبب في تلك المرمطة. تهدأ عندما تسمع عبد الحميد يقول انه رأى ابراهيم في الشارع يستقل سيارة ، لم يتمكن من التقاط نمرتها. عرفت أنه لن يفشي السر.
لم يصدق الضابط ما قاله عبد الحميد ولو أنه تظاهر بغير ذلك. وطلب من عبد الحميد أن يترك عنوانه عند السكرتير قبل أن يودعهما في غاية اللطف. ركب معها في التاكسي ، أبدت له حبها وطلبت منه امن يذهب معها الى البيت . رفض ولم يعدها بزيارة . افترقا وهو لا يدري أنه مراقب .
14
نوال مرتبكة متعجلة في زينتها، تخرج لموعدها مع ابراهيم وأمها تعلم أنها ذاهبة لبيت صديقتها. تفرح وتحزن بحسب الصورت التي ترى ابراهيم فيها. تصل الميدان وكلها خفر وحياء في انتظار ابراهيم. لم يأت ابراهيم بعد طول انتظار تعرضت فيه لبعض الاذلال والسخرية . تعود مصممة على أن لا تضع نفسها في مثل هذا الموقف ثانية، ولكنها رغم ذلك تلتمس لابراهيم الأعذار.
تحتار نوال بين المقاومة والاستسلام، تبتعد عن كل من في البيت، لا تستطيع أن تسأل محي، ولم تلاحظ شرود عبد الحميد وهمساته مع سامية. لا تطيق الضيوف الذين دعاهم الوالد ليروا أن أحدا ليس عندهم في البيت. ولا حتى سنية التي أعيدت.
تحضر نفسها للخروج للموعد التالي وكأن ابراهيم يناديها. في المكان المعتاد تتوقف السيارة وفيها فتحي. يقول ان ابراهيم سيأتي في موعد قادم ويوصيها أن تطلب من عبد الحميد أن يلتزم جانب الحذر لأنه مراقب. ويغدر فجأة كما جاء.
ترى المخبر قريبا من البيت كلما يحضر عبد الحميد، وتخبره بذلك. رأى المخبر يتبعه حتى وصوله الى البيت. شعر باهانة مزدوجة، ابراهيم يهرب وهو غافل عنه، ويستعجل بابلاغ المخابرات دون معلومة محددة. لم يبق له الا سامية، انها تحبه وتحترمه، كذب وأنقذ كل أهل البيت من أجلها. تستحثه على الزواج ويصبح حبه لها أكثر رقة، ولا يعادل احساسه بضعفه سوى شعوره بحاجته الى سامية. وبقي المخبر يتعقبه كظله.
15
يجافي النوم عبد الحميد وتتعبه المراقبة، يفكر أحيانا بالاعتراف بكل شيء ليستريح. ولكنه لم يفعل. تستمر المراقبة مع تغير المخبرين. فكر في الهرب ولكنه أيقن أن ذلك سيتحول الى ادانة. جعلته المراقبة كالمجنون. شعر بحاجة الى سامية – الناحية الوحيدة في حياته التي بقيت طاهرة نظيفة. تمنى أن يضع رأسها على كتفها ويبكي.
الملازم الدباغ يداهم البيت ، يسأل عن محي، ويأمر بتفتيش البيت. يتمنى محي أن يتكلم ولكنه لا يستطيع. يدخل الدباغ غرفة الجلوس حيث الأم والبنات وعبد الحميد . يحيي عبد الحميد الأمر الذي يثير استغراب الوالد. يفتشون عبد الحميد فلا يجدون شيئا. ينتقلون الى غرفة محي. يتجرأ ويسأل عن مذكرة التفتيش فيرد عليه الدباغ بابتسامة باهتة ساخرة.
تفتيش في غاية القسوة والفظاظة. يجدون الورقة التي كتب عليها ابراهيم اسم الضابط الذي فر منه ويسأله الدباغ عنها فينكر معرفته بها، كما أنكر معرفته بالبنطلون الذي تركه ابراهيم في خزانته. عاثوا فسادا وتفتيشا وبكل وقاحة في غرفة البنات وكل غرف البيت. ينتهي التفتيش ويجرون محي الى خارج البيت وسط ذهول الجميع.
أما عبد الحميد فيأخذه الدباغ معه ويقول له انه قد سبق أن زار شقته قبل المجيء الى بيت عمه. وسيق محي وعبد الحميد الى المحافظة.
16
تتصارع الأفكار في رأس محي. خجل من نفسه لأنه فكر لحظة بالاعتراف. يترك الأمر لله الذي ساق ابراهيم اليهم. لماذا لا ينقذه الآن؟ أصابته قشعريرة ، استغفر ربه، قرأ آية الكرسي، لا يريد أن يتخلى عن الله.. أمله الوحيد. ينتقل بفكره الى عبد الحميد ، لن يعترف ولن يخذله. يمنعهما الشرطي من الكلام فيواجهه عبد الحميد بقوة كأنه ينتقم لفعلته التي يعتقد أنها السبب لكل ما هم فيه. يأخذونهما الى سجن الأجانب. الدباغ يحقق مع محي بينما يتولى همام التحقيق مع عبد الحميد .
لم يعترف محي بشيء رغم ادعائه بأن همام أخبره باعتراف عبد الحميد الذي سيعود الى بيته. انه لا يريد أن يعترف ، ليس لحماية ابراهيم ولكن لأنه يرى الاعتراف جريمة لا تقرها مبادئه الأخلاقية.. يسمع صراخ عبد الحميد .. اذن، لم يعترف كما قالوا.
بدأت عملية التعذيب باشارة من الدباغ قبل وهو يترك الغرفة. يسقط محي على الأرض بفعل الصفعات والركلات. يدخل الدباغ ويتصنع عدم الرضا عما فعل الجندي. يحاول استرضاء محي واستدراجه للكلام. لا يعترف بشئ . يتركه الدباغ باحتقار ويجر الى الزنزانة. يستمع الى تشجيع بعض المساجين، يسمع أنين عبد الحميد ، وبعضا من الشعر الحماسي من سجين عتيق وموجة من احتجاجات مساجين آخرين.
يستمر التعذيب في الزنزانة. لا يعترف. لا يصدق أن عبد الحميد هو الذي أبلغ عنهم .. والا لماذا كانوا يضربونه ويعذبونه اذا كان الأمر كذلك؟ أصر على عدم الاعتراف. أمر الدباغ باخراج السرير من الزنزانة ونضح أرضيتها بالماء، وهذا ماحصل. أغلقت الزنزانة وأطفئ النور ووقع محي مغشيا عليه..
17
انتشر الخبر بين المساجين أن السجين رقم8 (محي) قد مات. المساجين يخرجون فرادى لفترات قصيرة ولا يسمح لهم بالالتقاء. يصل الخبر الى رقم 12(عبد الحميد) فيصيح شاتما مهددا. يتعاطف السجناء ويعرفون الاسم الكامل لمحي. الصيحات الوطنية تملأ الفضاء.
يبدأ المساجين صخبا رهيبا يدعو الى حضور المأمور. يقولون ان رقم 8 قد مات. يسقط في يد المأمور. يتفقد رقم 8 ويجده حيا ولكن في حالة يرثى لها. يتصل بهمام الذي يأمر باعادة السرير وتجفيف الزنزانة. يسكت الضجيج عندما أعلن أحد المساجين لم يمت. يحضر همام والدباغ، يخشيان أن يموت قبل أن يعترف. يطمنهم الطبيب أنه يعاني من التهاب الزائدة ولا بد من نقله الى المستشفى.
تخرج سيارة الاسعاف مسرعة من السجن وتمر برجل عجوز يحمل حقيبة ولا يكاد يقوى على المشي. ينظر العجوز الى السيارة دون أن يعلم أنها تحمل ابنه ، جسدا بين الحياة والموت.
18
يترك الوالد الأم على الأرض تعاني من نوبة عصبية. يتوجه الى المحافظة ويعلم أن ابنه ليس هناك. تنتابه الهواجس وتزداد نقمته على النظام. يشعر بتهاوي شخصيته وتذهله تفاهة الناس وانعدام قيمهم ، ما دام البوليس يستطيع أن يفعل مايريد. من خلال حديثه مع الجندي الذي عطف عليه ، علم أن ابنه موجود في سجن الأجانب.
يذهب الى السجن ولم يسمح له بالدخول. يلوم نفسه فلو لم يوافق على استضافة ابراهيم لما كان ما كان. ويتساءل هل يطلقون سراحه لو قدم نفسه بدلا منه. ويعود الى البيت ويضطر للكذب لتطمين زوجته. يعترف للبنتين أن الولدين في السجن وأنه لا يعرف شيئا عنهما.
يسمح له في اليوم التالي بالدخول بعد انتظار طويل. يطلب الدباغ مساعدة الوالد في الحصول على معلومات من محي. ويذكره بعقوبة الادانة ومكافأة الاعتراف. ينكر الوالد ويصر على عدم وجود أية صلة لابنه مع ابراهيم. وخشية وجود بعض الأدلة الجسدية على التعذيب يعد الدباغ الأب برؤية محي بعد يومين. ولم يخبره أنه في المستشفى.
يعود لعمله متأخرا نصف ساعة ولأول مرة في حياته.
19
لم يبق في رأس نوال عن ابراهيم سوى أنه المنقذ الذي سيحرر أخاها وابن عمها. انتظرته طويلا في مكان الموعد وتصاعد الشك مع طول الانتظار. وكذلك الكراهية للبطل الذي لا يهمه الا نفسه. وتفكر في الابلاغ عن فتحي الذي بدوره سيدل على ابراهيم. أليس البطل أولى بالسجن من محي وعبد الحميد؟ تطرد هذه الأفكار في الحال وتؤكد لنفسها أن حبها لابراهيم ليس وهما. استحضرت صورته واجتاحتها موجة من الحنان.
طالت المدة ولم يعد الأب قادرا على الكذب لتهدئة خاطر الأم. يتوافد المعارف والأصدقاء لمعرفة أسباب الاعتقال ، ولكنهم لا يحصلون على أي معلومة من البيت.
أبو عبد الحميد مستسلم لكل شئ، لزوجته وللجميع ولا يجرؤ على الاستفسار عما حدث لابنه. جاء الى أخيه لعله يظفر بخبر يعود به لزوجته وكأنه حصل عليه بمجهوده. يصب بعض الحاضرين غضبهم على الحكومة ويشكون سوء حال البلد، ويتمنى البعض لو كانوا شبابا لينخرطوا في سلك المقاومة.
يستمع الوالد الى تلك الأحاديث التي تدور في بيته لأول مرة ، والتي طالما جالت بخاطره. كتم ثورته ونافق الحكومة لعلها ترأف بحال محي. تنام العائلة مفتحة العينين .يستعد الوالد للزيارة بعد أن يستأذن رئيسه في العمل.
وفي اليوم التالي يأتي شرطي الى البيت من طرف عبد الحميد حاملا رسالة تطمنهم عن أحواله وأحوال محي ويقول ان محي في المستشفى ربما بسبب الرطوبة. ويقول ان المرضى عادة يرسلون الى القصر العيني. تقابل الأم الشرطي وتطمئن منه على ابنها. ألمح أنه على استعداد لنقل شئ بسيط واستثنى الأكل والشرب من ذلك. يمكن أن يحمل نقودا مثلا، فهذه يحتاجونها دائما. جمعت الأم وبناتها مبلغا ضئيلا سلماه اياه.
يعود الوالد خالي الوفاض بعد انتظار ست ساعات وتجاهل الدباغ له. ويجد نبأ الشرطي الزائر في انتظاره ويتوجه الى المستشفى. لم يستطع رؤية ابنه، ولما عاد في المساء طمنه الطبيب عنه . وكانت ليلتهم طويلة.
تذهب نوال دون أمل الى موعد الأربعاء، وكأنها ذاهبة الى قبر آمالها. تتوقف السيارة وفيها فتحي، تباغته بالسؤال ان كان يعلم ما حدث. يطمنا أنه يعرف ويقول ان ابراهيم يؤكد لها أنه لن يحصل لهم أي شئ. أشاد فتحي ببطولتهما حيث أنهما لم يعترفا بشيء. المسألة بحاجة الى وقت والمهم عدم الاعتراف. غضبت وقالت ان المهم عندهم أن لا يعترفا . أكد لها فتحي أن الاعتراف سيكون ادانة لهما. سيخرجان بعد شهرين أو ثلاثة ، أما الاعتراف فجزاؤه سنين. تسأله عن محي فيقول لها انه كاد أن يلقي بنفسه الى التهلكة مرتين ليراها. ولكنه سيراها قريبا.استعادت ثقتها بحبه لها.
يصل فتحي الى ابراهيم في مخبئه الجديد ويطمنه أنه رأى نوال ,انها خائفة تريد الاطمئنان على أخيها وتريد رؤيته. يفكر في تسليم نفسه لانقاذ محي، فيستنكر عليه فتحي ذلك.
20
يخرج ابراهيم في زي الضابط ويركب السيارة مع فتحي ومحمود ويتوجهون الى الاسكندرية لمغادرة مصر كما خططوا. ينتابه الحزن لمجرد تفكيره بمغادرة الوطن، فأي قيمة لانسان بعيدا عن الوطن والأحبة ولا يشارك في الجهاد؟ يكره نفسه ويتمنى أن لا تنجح خطة هربه.
يصلون الى الاسكندرية وقد هيأ عبد العزيز لمغادرة ابراهيم مهربا ومتنكرا في زي عامل تنزيل الفحم. لبس ابراهيم الملابس الرثة القذرة على اللحم ويتخلص من حذائه ولكنه يبقي على الهوية المزورة والمصحف الصغير الذي يحوي الورقة التي كتبت عليها نوال بخطها " محمد رسول اله ".
قبل أن يختبئ في السفينة طلب من فتحي الذهاب الى الموعد لمقابلة نوال وتطمينها دون أن يخبرها أي شيء عن مكان تواجده. ما كاد يختبئ حتى علم أن السفينة ستعود من بيروت الى الاسكندرية قبل مغادرتها الى مرسيليا. بهت من هذا النبأ فألغى فكرة السفر في هذه السفينة وغادرها بالطريقة التي دخلها بها. وعاد مع فتحي ومحمود الى القاهرة في زي الضابط. تقرر أن يبقى في غرفة على السطح عند محمود الى أن يعثر عبد العزيز على سفينة متوجهة الى مرسيليا مباشرة.
يحاول أكثر من مرة أن يرى نوال ولكنه كان يعدل عن ذلك، يريد لها أن تيأس منه ومن حبه ويتمنى لو يحمل عنها كل العذاب وأن لا يحرج قلبها الكبير. يفاجأ بزيارة رجال الأمن الذين جاؤوا لاعتقال محمود. ينتهز انشغالهم بمحمود وينطلق هاربا. يتبعه الجنود ويشاغلهم الناس ويعطلونهم بعد أن أعلمهم أنهم من البوليس السياسي. يختبئ عند زميله عبد الله في شقة طالبين مسافرين.
تطول المدة ويحس أنه سجين فيقرر أن يقاتل الانجليز لأنهم هم الذين يقررون السياسات التي يتبعها وينفذها أعوانهم وأتباعهم. يعلم بخبر اعتقال محي وعبد الحميد فيزيده ذلك غضبا واصرارا على العمل ضد الانجليز ليثبت للعائلة الكريمة أنه جدير بثقتها. اغتال جنديا انجليزيا في تلك الليلة ولكن ذلك لم يرضه لأن الحكومة سوف تعزي قتله لأي سبب آخر وتحرم الشعب من سبب يحرضه على التفاعل الممهد للثورة. لا بد من عملية كبيرة ضدهم تتعدى الأفراد ولا يمكن اخفاء أو تجاهل ضجيجها.
لا يمكنه الاطاحة بالنظام، فالمقومات المادية المطلوبة صعبة المنال والتحقيق. يجب أن تثور الأرض كلها أولا باشاعة روح الثورة وتحريك كل القضايا الوطنية حتى تصبح حديث كل الناس وغذاء عقولهم. وأزعجه أنه لن يستطيع المشاركة في ذالك ما دام مختبئا. قرر أن يقوم بعملية انتحارية كبيرة تلهب الشباب، وليس مهما بعدها أن يعيش، فليكن شهيدا يتخذ الناس من دمه علما للثورة. ويقنع فتحي بالحصول على المتفجرات اللازمة.
21
ابراهيم لم يعد يثيره شيء وعاد اليه هدوؤه بعد أن قرر أن يكون الطلقة الأولى لاشعال الثورة. انه يحتاج لكل جرأته، ولا يريد أن يتشبث بالحياة من أجل نوال ،يعلم أن موته ليس تضحية من أجلها بل تضحية بها . تلاحقه في خيالاته ويستذكر كل محطاتهما المشتركة. انه سعيد بحبه لها دون آمال وأوهام.
يخبره فتحي أن عبد العزيز لديه باخرة ستغادر في الغد مباشرة الى مرسيليا. يوهم عبد العزيز أنه لا زال مهتما بالسفر ولكنه يستفسر منه بجدية والحاح عما حدث بشأن المتفجرات. وكان ذلك يوم وقفة العيد. وبينما يذهب عبد الله لاحضار المتفجرات من السيارة يفاجئ ايراهيم فتحي بعزمه على دخول معسكر العباسية. لا يوافقه الرأي ولكن ابراهيم يقول انه اذا دخل المعسكر فان كل الشعب سيدخله معه ، ومن هناك تبدأ كرة الثلج بالتدحرج. كان لديه المام بتفاصيل المعسكر من وقت سابق.
الخطة كانت أن يلهي عبد الله الجندي بأي كلام حتى لا ينتبه للسيارة ، وأن يساعده فتحي على ارتقاء السور الذي سيقفز من فوقه الى سينما المعسكر. يخرج الثلاثة عند منتصف الليل . يلقي ابراهيم نظرة وداع على مكان الموعد مع نوال ثم يلقي أخرى على بيته ، قبل اساعة الثانية موعد التنفيذ.
ينزل عبد الله من السيارة ويتوجه الى حيث الجندي.. بعد قليل تمر السيارة فلا يلتفت الجندي الملهي بالكلام مع عبد الله ، تقف السيارة بعيدا عنهما، يصنع فتحي من يديه سلما يرتقيه ابراهيم مسدسه في عبه وحقيبة المتفجرات والقنابل حول كتفه وعنقه ، ويقفز منه الى وراء السور .. الى السينما.
يدخل السينما ويشعر بوحدة هائلة مخيفة ، بعد أن سمع السيارة تتحرك لتنتظر في المكان المتفق عليه. يدخل المعسكر ويرى عن بعد الحرس ثم السحة التي تقف فيها الدبابات واللوريات . لم يعد يفكر الا في الخطة . يزحف الى موقف الآليات وقد مزقت الاسلاك الشائكة لحمه ، يشعل فتيل متفجرة ويلقيها تحت دبابة ويجري مبتعدا ، انفجار رهيب يكاد يطيره في الهواء، أضواء كاشفة مسعورة تجوب المعسكر، متفجرة أخرى تحت لوري وانفجار مدو رهيب . الأنوار والرصاص تحاصره من كل صوب ، يلقي بالمتفجرة الثالثة دون تحديد هدف ثم يلقي الرابعة من شبال مبنى لعله مخزن أسلحة ويسمع انفجاران رهيبان . يرمى الحقيبة بعد أن أخذ القنابل الثلاث ويتجه الى السور الشائك. أنوار ورصاص وأشواك تنهش جسده . تصيبه رصاصة ، يسيل دمه من الكتف الأيمن . يلقي قنبلة بيده السليمة ويجري في اتجاه آخر للتمويه. ثم ثانية ويهرب من الأنوار والرصاص والكلاب . يلقي الثالثة والأخيرة لعل رائحتها تضلل الكلاب. انه لا يريد أن يموت ويريد أن يعود للقاء فتحي. يتسلق الجدار نازفا . يهبط الى الرصيف ، يقابله البوليس المصري المستنفر ، لا تطاوعه يده على معالجة الشرطي برصاصة من مسدسه ، فيعاجله الشرطي برصاصته القاتلة.
يسقط ابراهيم على الأرض منكفئا على وجهه، يتحسس الأرض بيديه، ويبتسم.. ويغمض عينيه .. كأنه ينام..
22
صباح وقفة العيد والعائلة كلها تشعر بانقباض وتعاسة . تحمل الجريدة خبر مصرع ابراهيم في معركة مع البوليس . كانت نوال أول من وقعت عيناها على الخبر المفجع.
الخبر يصدم الجميع ولا سيما الأب ، يطلب من بناته اللتين علا بكاؤهن ونشيجهن أن يكتمن أصواتهن ، ويخبر الأم بما حدث بعد أن امتنعت البنتان عن ذلك. يظهر عليها الحزن والأسف الشديدان ولكنها لا تلبث أن تتذكر ابنها وتخشى عليه من نفس المصير. يطمنها الأب أن ابراهيم قتل في معركة بينما ابنها في السجن . تهدأ قليلا وفجأة تستنتج أنه ما دام محي في السجن بسبب البحث عن ابراهيم ، فان هذا السبب قد اختفى الآن، فما الداعي اذن أت يحتفظوا به في السجن؟
لم يتوقع الأب أنه سيأتي اليوم الذي يتمنى فيه أن يبقى ابنه في السجن اذا كان في ذلك ابقاء على حياة ابراهيم. وبدأت دماء الثورة تتدفق في عروقه وكأنه عاد الى أيام الشباب.. تعود الأم الى نشيجها فكلما تتذكر موت ابراهيم ترى محي ميتا معه. يحاول الأب أن يخفف من روعها ، فيطلب منها أن تعد الأغراض التي سيأخذها لمحي غدا ..
فجأة تتوقف نوال عن النحيب وتقول لسامية انها ستذهب لموعدها مع ابراهيم، لا يمكن أن يكون قد قتل وهو البطل الذي وعدها باخراج محي من السجن. لم تفلح سامية لاعادتها لأرض الواقع ، وأخذت تحضر نفسها للقاء. تصر على الخروج للموعد المفترض ، رغم معارضة الأم والأخت ، لايمانها بالورقة التي كتبها ابراهيم بخط يده وتحتفظ بها مع مصحفها. وكانت تعلم أن في داخلها فتاتين : واحدة تعلم أن ابراهيم قد مات والثانية ترفض ذلك. ثم تعود الى رشدها فتقول لأختها انها تعلم انه قد مات ولكنها لا تعرف مكان قبره ، وتريد أن تزوره في مكان موعدهما . وتطلب من سامية مرافقتها.
وفي مكان الموعد انهمرت دموعها هادئة وكأنها تقف على قبره . وهما في الطريق الى محطة الاتوبيس لم يخرجها من استغراقها في خيالاتها الا رؤية رجال البوليس وبنادقهم التي تقتل الأبطال. يصيبها الرعب فتلتصق بأختها احتماء بها الى أن تصلا المحطة في طريقهما الى البيت.
تحول خوفها من البوليس الى ثورة ضدهم . في البيت تجهش البنتان في البكاء على ابراهيم ومحي وعبد الحميد . وتمضي العائلة ليلة ثقيلة جامدة ، وتتصرف وكأنها لم تر ابراهيم قط.
بعد صلاة العيد يخرج الأب حاملا هديته لزيارة محي . كان شارد الذهن فلم يسمع التوصيات الكثيرة من الأم والبنتين. كان فرحا بتصريح الزيارة ، مستشعرا ضآلة مصيبته .. وامتلأ احساسا بالزهو والقوة لانضمامه الى مجموع الشعب الذي يصنع الأبطال والثورة .
وقف أمام الباب الكبير ، وبعد تدقيق وانتظار سمح له بالدخول .
23
صبيحة العيد فتحت الزنازين على غير العادة وسمح للسجناء بالخروج والاختلاط مع التحذير باعادتهم اذا ما صدر منهم أي مخالفة . لم يقتنع السجناء بأن هذا الاجراء بدافع انساني كما ادعت الادارة ، بل عزوا ذلك الى حفظ التحقيق في قضية ابراهيم حمدي..
فرح السجناء بمساحة الحرية الضيقة وأخفوا سخطهم المعهود . محي أمام زنزانته بدا ثابتا أكثر رجولة وتعقلا. واكتشف عالما جديدا عليه . ليس في صدره ثورة بل استسلام وتفكير عميق . شعر أنه يعرف كل النزلاء رغم أنه لم ير الا بعضهم في طريقه الى الحمّام . انهم عائلة واحدة لا كلفة بين أعضائها .
لقاء حميم مع عبد الحميد ، ويطرد من رأسه كل الأفكار التي تنفّره منه ، يكفي أنه لم يعترف وأنه عذّب مثله، حتى ولو حاول أن يبلغ البوليس. شعر أن له عزوة بعبد الحميد . ولكن تلك الأفكار عن عبد الحميد لا تلبث أن تعاوده وتنكد عليه .
تناول النزلاء العملية البطولية بكل تفاصيلها وكانوا يتصورون أنفسهم أبطالا ساهموا فيها من أولها الى آخرها . أما محي فكان يستمع اليهم وكانهم يتحدثون عنه هو ، وكان يحس ببطولة ابراهيم أكثر من حزنه عليه . ابراهيم لم يمت ، بل هو حي يعيش في صدره .
تأثر النزلاء بالحدث وأخذتهم الحمية الوطنية وارتجلوا كثيرا من الخطوات المزمع عملها الى أن تدخل نزيل هادئ رزين فنبههم الى ضرورة الخروج أولا ثم التفكير فيما يمكن عمله . هذه الشخصية ذكّرت محي بابراهيم ، فعرف أنه أمام مشروع بطل قادم ..
تكلم النزلاء عن أمجادهم .. وهي أقل بكثير من اسهام محي وعائلته .. ولكنه آثر الصمت .. وكذلك فعل عبد الحميد . ثم تحلقوا يغنون الأغاني الحزينة ويتبادلون النكات والسخرية من الحراس .
يعلن السجان أن هناك زيارة لمحي، فيفهم النزلاء أن ذلك نذير بطول مدة بقائه في السجن. يخجل محي منها لأنها تعني تميزا لا يرضاه لنفسه . يرافقه عبد الحميد ويرجوه أن يحمل أباه تحياته الى والديه والى بيت عمه.
يقف الوالد لأول مرة مستقبلا محي ، ذلك البطل الذي يستحق الاحترام . محي يقبل يد والده ويشد عليها ، فلا أحضان ولا قبلات لئلا يزيده ذلك خجلا أمام الناس ، ويفهم الأب ذلك . وشعر الاثنان بتقارب لم يشعرا بمثله من قبل .
وضع محي ( الكحك ) أمام زملائه فاقضوا عليه وانتهى في دقائق والحراس ينظرون اليهم ويتحسرون .
يحدث تمرد ضد ادخالهم الى الزنازين ، فيقمع بعنف ووحشية ، كان محي يرتجف وهو يراقب ما كان يحدث بينما كان عبد الحميد أكثر المتمردين عنفا وتعرضا للأذى. وتمضي الأيام بين يأس وأمل .. ضحك وبكاء .. بين فتح الزنازين واغلاقها .
ظل عبد الحميد يعاني من أزمة نفسية لا فكاك منها ، واعترف لنفسه بأنه فاشل . وبعد تفكير وتأمل اهتدى الى أن سبب فشله هو انعدام الايمان ، فلم يؤمن بشيء الا بنفسه ، على عكس كل السعداء الذين لهم ايمان بشئ أو بمبدأ. اتجه الى الايمان ، صار يصلي واختلفت معاملته للزملاء وتحسنت أخلاقه . وصار يكره الانجليز والشرطة التي تأتمر بأمرهم . يفكر بالحصول على التوجيهية ، ويبدأ الدراسة في الكتب التي هرّبت اليه ، وسيحصل على الشهادة الجامعية فيستحق السعي الى سامية .
أما محي في زنزانته فلم يكن نادما على ضياع عام دراسي ، فقد تعلم في السجن أكثر مما تعلم في كل دراسته . يريد أن يتعمق ويتعلم أكثر ، يتعلم الحياة . يتابع بشغف الأخبار التي تتسرب اليهم عن الاضرابات والمظاهرات التي تنادي بسقوط الوزارة وتطالب بالغاء المعاهدة والانتقام لابراهيم . وعن الطلاب الذين استشهدوا دون ذلك .
أخذ يتساءل لماذا يقبل الطلبة على الاستشهاد ويلقون بأنفسهم في السجون ويتساءل عن الحرية والوطنية والاستعمار والخيانة ، ويتساءل ما هو الشعب. تساؤلات لم يجد أجوبة عليها في ظل والد يحاصر أفكاره وتحركاته . صار يقرأ بنهم كل الكتب التي تبحث في السياسة والتاريخ والديانات والمبادئ. وبدأ يفهم لماذا استشهد ابراهيم ولماذا يثور زملاؤه . وأحس بعنفه الفكري وظل يكره العنف الجسدي .
يوم الافراج عنه كتم فرحته بالحرية احتراما لمشاعر زملائه . وقّع تعهدا بعدم تعاطي السياسة - الوطنية كما يفهمها - وهو يعلم أنه يتعهد كاذبا . ولحظة خروجه يدخل الدباغ ، دون أن يراه ، يسوق أمامه طالبا مقبوضا عليه ليحل محله في نفس الزنزانة . ولم يشعر بأسف على مصير السجين الجديد لأنه يعلم الأسباب ويعلم أن المعركة لن تهدأ..
الفصل بعد الأخير
عادت الحياة الى طبيعتها. الأب يعتاد على تصفح الجريدة قبل الذهاب الى العمل . ومار يتذوق الحديث عن السياسة والتعليق عليها. أنه مع الناس ضد الحكومة ، وينفعل قلبه ازاء الأحداث ولكن الانفعال لا يتعدى لسانه. أمله متجدد في سقوط الحكومات ولا يدري ماذا يريد بعدذلك. ينظر الى الشباب باكبار وكأنه يبحث في كل منهم عن بطل جديد. تغيرت نظرته لابنه ويراه قادرا على تحمل المسؤولية .. تحملها عن العائلة كلها عندما دخل السجن. هو وزملاؤه قادرون على تحمل مسؤولية الوطن كله . لم يعد يحاصر اينه ، ولكنه بقي خائفا عليه ويرجوه الابتعاد عن التهور. أما الحديث عن ابراهيم وبطولته التي هي بطولة بيته فقد بقيت من المحرمات الا همسا ما يكاد يبدأ حتى ينقطع.
الأم الطيبة عادت الى طبيعتها. بعد أن اكتشفت أن في الدنيا سجون، وأن ابنها يمكن أن يقتل ، وأن هناك في مصر أناس آخرين غير أولئك الطيبين الذين تعرفهم وتتعامل معهم . تخاف منهم على ابنها . ويدب في قلبها الرعب اذا تأخر فتلتصق بابنتيها وتلجأ الى الصمت الى أن يعود وتدب الروح فيها من جديد.. نالت الوساوس والهواجس من صحتها وجسدها الذي بدأ يذوي ويتهدل ولكنها بقيت صابرة.
سامية تزوجت عبد الحميد وعاشا مع العائلة بعد أن نال الشهادة الجامعية بعد العودة الى عمله، وزاد ارتباطه بالبيت كله وأصبح قريبا من قلب عمه. حاول التخلص من عقدته بالعنف السياسي والنشاط الوطني الفاعل ولم يلهه عنهما حبه لسامية ولا دراسته. صار صاحب مبدأ ويستعد للتضحية بكل شيء من اجله ولم يفارقه ذلك الندم الدفين.
عامان مرا على نوال لم تعد بعدهما تلك الصبية المرحة المهتمة بنفسها وثيابها .. أصبحت كبيرة مع التجربة وأصبح طابعها حزينا متعقلا أكسبها ثقة الجميع واحترامهم. وحدها سامية تعلم سر ذلك التبدل وتحترم حزن نوال وفجيعتها وحبها وذكرياتها القصيرة. صارت وكأن البطل يعيش في داخلها .. وكأن ابراهيم دائما معها.
ويتقدم لخطبتها أخو احدى صديقاتها ، طبيب شاب ، القرار لها وحدها. انها لا تحبه . ابراهيم لا زال يسكن قلبها . ولكنها قبلته لأنها مقتنعة بأنها يجب أن تتزوج لأن الزواج هو وظيفة المرأة ولأنها لا تريد أن تعيش دون وظيفة . قررت أن تكون زوجة صالحة وعلى أحسن وجه . تزوجت قبل سامية .وتخلصت من قميص ابراهيم لسامية اخلاصا للرجل الذي اختارته زوجا. أما الورقة فبقيت في المصحف لعلها تلتقيه في السماء .. وهذا أمل لا يعلمه الا الله. على الأرض عرف الناس أنها أسعد الزوجات وأن زوجها أسعد الأزواج.
محي تغير ، نهمه للقراءة لا يعرف حدودا ، يقرأ في شتى المواضيع التي تزيده معرفة ببلده ونفسه وشعبه ، يقرأ ليفهم لا ليتسلى ، تمتد قراءاته الى ما كتب بالانجليزية ، ويحس أنه يكبر مع القراءة .. وقد كان فعلا كذلك.
كبرت شخصيته في بيته وبين زملائه . يجري وراء المثاليات والتنظير ويبقى بعيدا عن النشاط الوطني العنيف . عرف بوعيه وبحوثه ولم يعرض شيئا منها الا اذا طلب منه ذلك. بقي الحذر يلازمه، أراد أن يعيش أكثر ليقرأ أكثر . لم يعد يهمه أن يكون الأول أو أن يكون معيدا . تخرج بتفوق وعمل عند محام يحضر له القضايا ولا يظهر أمام المحاكم . يكتب مقالات تنبض أفكارها عنفا ويرسلها الى المجلات دون امضاء.
تقوم الثورة، يزهو محي ويحس أنه وأهله اشتركوا في صنعها بسخطهم وأحاديثهم واتجاه تفكيرهم وآمالهم والخلق الوطني والارادة التي تحملت العذاب والحرمان. بطل الثورة الجديد قريب من قلبه وكأنه ساهم في صنعه.. البطولة لا تموت . . تتجسد في الملايين الذين يهللون للثورة وهو واحد منهم . سار بين هؤلاء الملايين يقبل كلا منهم بعينيه .. وذاب بينهم...
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق